الطفل بين الفطرة السليمة والتربية الحكيمة
كثيرًا ما تَنبت زهرة الطفولة كزهرة بريَّة، لا نراها بديعة إلا برعاية من الطبيعة، فهي دومًا تحتضر، ولزخات المطر تَنتظِر، فإذا أصابتها اهتزت وربَت، وإذا لم تُصبها جفَّت وذبلت، فالآباء غالبًا لا يَعرفون للأبوة من معنى غير سدِّ جوع، وكسر ضلوع، فكان لزامًا أن يكون لكل أب وأم قبل شهادة قيادة السيارة، قيادة الأسرة بمَهارة، والتربية بجَدارة.
فالتربية هي التعمُّق في سيكولوجية الطفل وإدراك حاجاته النفسية قبل الجسدية؛ من إشعار بالأمان، والحب والحنان، وترك مساحة للحرية والاستقلالية، وتقدير اجتماعي يصبُّ في التقدير الذاتي من تحفيز على أبسط الإنجازات، ومُشاركة في مختلف الهوايات، فلا بأس بإشعار الطفل أنه مناط تقدير وتوقير، فنجعله تارةً ضيف الشرف الكريم، وتارة أخرى المضيف الحكيم، كذلك من المهمِّ أن نُشعِره أنه قادر على اتخاذ القرار، فنجعله يُقرِّر مثلاً مكان إقامة نزهة ما بمنحه جملة من الخيارات، فنكون نحن أصحاب الاختيار، وهو صاحب القرار، كما لا نؤنِّبه أمام أقرانه، أما الضرب فهو إعلان لدماره؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزَع من شيء إلا شانَه))، وكذلك علينا أن نجعل من رسولنا - عليه الصلاة والسلام - الأسوة الحسنة؛ قال - عز وجل -: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، فيكون بذلك البديل الصحيح عن المُمثلين والممثلات، وما يُسمون بالكواكب والنجمات، فنؤسِّس لأهم لبنات بناء الشخصية السوية، صاحبة العزيمة القوية، والثقة بالنفس والاعتزاز بالهوية.
والثقة بالنفس لا تُبنى بأن يعوَّد الطفل على سماع أروع المنادات، من: مُتخلِّف، غبي، وصاحب الإخفاقات، كما لا تُبنى بأمٍّ همها تحضير أشهى الأطباق والأكلات، بل بأم تعيش كل لحظة لطفلها وكأن طفولتها قد بُعثت للحياة، أمٍّ تُجيب عن كل التساؤلات باهتمام وحنان دون زجر أو نهر، أم تتصيَّد الحسنات بكثير من الثناءات والتحفيزات، وتجتثُّ جذور السيئات بنهي يُفهَم معه القصد والغايات، بعيدًا عن كل المقارنات، أمٍّ ترسم المخططات لبناء شخصية هذا الطفل فيكون من العظماء، هِمَمه تُناطِح السماء، ولا يعرف لدناءات الأمور أسماء، ولد صالح ينفع بالدعاء، يوم لا ينفع بكاء أو رجاء، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له)).
فتنجح بذلك في تحقيق أسمى الغايات، كما نجحت قبلها كثير من الأمهات العظيمات؛ كأمِّ الإمام الشافعي الذي حين توفِّي والده وعمره العامان عانت هي وطفلها البؤس والفاقة، غير أنها كانت على قدر من العلم والفَهم، فأرادت أن يكون ولدها عالمًا يملأ علمه الآفاق، مهما تكدَّر العيش أو ضاق، فدفعَت به إلى مكة يُقرئ الصبيان، ولأنها كانت تُعاني الحرمان؛ فقد عجزت عن دفع أجرة العلم، وبفطنتها وذكائها جعلت الطفل يلقف من كلام شيخه ويُعلِّم بقية الأقران، وعندما تنبَّه لأمره المُعلِّم سُرَّ، واكتفى أن يكون ذلك هو الأجر، وبقي على تلك الحال، إلى أن حقَّق المنال، وحفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره، ثم لمزيد من الإتقان، سافر وعمره ثلاثة عشر عامًا للمسجد الحرام، فأخذ التلاوة والتفسير، والتدوين، وكان يلتقط العظام العريضة ليَكتب عليها، أو يذهب للديوان ويَجمع الأوراق المهمَلة لغلاء سِعرها.
أما ما يُذكر عن الإمام أحمد بن حنبل، فلا يَختلف كثيرًا عن الشافعي؛ فقد نشأ هو أيضًا يتيمَ الأب، بائسًا فقيرًا، حفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات، وروى عن نفسه قائلاً: "كانت أمي توقِظني وتحمي لي الماء وتلبسني اللباس، ثم تتخمَّر وتتغطى بحجابها وتذهب معي إلى المسجد؛ لأن المسجد بعيد، والطريق مظلمة"، ويروي أيضًا أنه لما بلغ السادسة عشرة من عمره أمرتْه بالسفر لطلب الحديث قائلة: "اذهب إلى طلب الحديث؛ فإن السفر في طلب الحديث هِجرة إلى الله الواحد الأحد، ثم قال: فأعطتني متاع السفر، ولأنها ما تملك شيئًا، أعطتني ما يُقارب عشرة من أرغفة الشعير، وضعتها في بقشية من القماش معه، ووضعَت معها صرَّة ملح، وقالت: يا بني، إن الله إذا استودع شيئًا لا يُضيعه أبدًا، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعُه".
كما يَروي مالك بن أنس قول أمه له: "يا مالك، تفرَّغ لعلم رسول الله وأنا أكفيك بمِغزلي"، وهي التي كانت تَغزل على نور القمر، وعندما يمرُّ شخص حاملاً سراجًا تتوقف عن الغزل حتى لا تُدخِل درهم شبهة إلى مالها.
ولا يمكن أن تتحقق مثل هذه التربية الراقية إلا باتباعٍ لهدي نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام.
فالبيوت ينبغي أن تكون حيطانها الحب والاهتمام، وسقوفها حفظًا من الآثام، وأساساتها كتاب الله وهدي خير الأنام - عليه أفضل الصلاة والسلام.