هذا أمية بن خلف في أرض بدر على بعيره الذي اشتراه بأغلى الأثمان، يتحين الفرصة تلو الأخرى لكي ينجو من الموت .. غير أن الموت قادم .. قادم يا أمية .. لكن أمية -فجأة- يشعر أن الحياة قادمة .. إنه يرى من خلال الموت فرجة إلى الحياة يحملها أحد المهاجرين ..
يحملها عبد الرحمن بن عوف وهو شاهر سيفه يجندل به جنود الشرك .. لكن أي أمل يحمله عبد الرحمن وسيفه يقطر دمًا .. يبدو أن أمية بن خلف يحمل سرًا .. فلقد تطلق وجهه واستبشر عندما رأى عبد الرحمن بن عوف ..
ويبدو أن عبد الرحمن بن عوف يحمل في ذاكرته المزيد عن تفاصيل ما حدث في بدر .. دعونا نستمع إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يحكى سر أمية بن خلف .. وآخر آمال أمية .. فهو إن لم ينج الآن على يد صديقه ابن عوف فسوف ينتن على أرض بدر ..
كان أمية وعبد الرحمن صديقين في الجاهلية .. وكان بينهما تعامل تجاري بعد الإِسلام .. بل وبعد الهجرة .. هذه العلاقة تخللتها قصة مثيرة .. بدأت في مكة قبل الإِسلام فمتى ستنتهي .. ؟
يحدثنا عن بدايتها وعن نهايتها عبد الرحمن بن عوف فيقول:
"كان أمية بن خلف لي صديقًا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت: عبد الرحمن، فكان يلقاني ونحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماك أبوك؟ فأقول: نعم هداني الله للإسلام فتسميت عبد الرحمن. قال: إني لا أعرف الرحمن" [1].
ومضت الأيام والأحداث بالاثنين .. بقي أمية بن خلف في مكة على شركه وأصنامه .. وهاجر عبد الرحمن بن عوف إلى المدينة .. ومارس التجارة بعد أن دلوه على سوق المدينة فصار أحد تجارها ..
ويمضي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه متحدثًا عن قصته مع أمية وهو في المدينة فيقول: "كاتبت أمية بن خلف كتابًا: بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة" [2]. وفي رواية: "كان بيني وبين أمية بن خلف كتابٌ بأن يحفظني في ضياعي بمكة، وأحفظه في ضياعه بالمدينة، فلما ذكرت: الرحمن، قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته: عبد عمرو.
فلما كان يوم بدر [3]، مررت به وهو واقف مع ابنه عليٍّ وهو آخذ بيده، ومعي أدراع لي قد استلبتها فأنا أحملها، فلما رآني قال: عبد عمرو .. فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، فقلت: نعم، قال: هل لك فيَّ، فأنا خيرٌ لك من هذه الأدراع التي معك؟ قلت: نعم، ها الله.
فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده وبيد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن، ثم خرجت أمشي بينهما [4]، خرجت به إلى شعب لأحرزه حتى يأمن الناس" [5]. وتوجه الثلاثة إلى ذلك الشعب، ثم توجهوا إلى جبل[6] .. فارتاحت نفس أمية بن خلف ..
يا لها من أيام عصيبة تلك التي كانت تحمل في دقائقها الموت والحياة معًا لأمية .. اطمأن أمية فتحدث عن اللبن الذي سيشربه ابن عوف وأصحابه من نياق أمية التي سيفتدي نفسه وابنه بها ..
واسترخت أعصابه فاسترسل في الحديث، وقال لعبد الرحمن بن عوف وهو يمشي: "بينه وبن ابنه آخذًا بأيديهما: يا عبد الإله: من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قلت: حمزة. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل" [7].
وواصلوا المشي والمسير .. وفجأة دوت صرخة مرعبة من بعيد اتسعت لها عيون أمية وابنه .. صرخة قلبت أرض بدرٍ على رأس أمية من جديد .. صرخة من أعماق مضطهد لا تزال جراحه تلتهب ..
يقول عبد الرحمن بن عوف: "فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي -وكان هو الذي يعذب بلال بن رباح بمكة على الإِسلام- فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، قلت: أي بلال، أسيري. قال: لا نجوت إن نجا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا" [8].
"فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار، فقال: أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية بن خلف، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم، فقتلوه، ثم أتوا حتى تبعونا، وكان رجلًا ثقيلًا فلما أدركونا قلت له: أبرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي" [9].
"فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة [10]، فأنا أذب عنه، فأخلف رجل بالسيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط، قلت: انج بنفسك ولا نجاء، فوالله ما أغني عنك شيئًا، فهبروهما بأسيافهما حتى فرغوا منهما". "قتلوه وأصاب أحدهم رجلي بسيفه" ..
يتذكر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ذلك مبتسمًا ويقول: "يرحم الله بلالًا، فجعني بأدراعي وبأسيري"[11].
وانتهت قصة أمية الطويلة كما تنتهي قصص كثير من أمثاله الذين قضوا حياتهم في التعذيب والتنكيل. بمن يقع بين أيديهم من المؤمنين والضعفاء والمساكين ..
انتهت حياته على يد من كان يتفنن في تعذيبه وكان يسلقه تحت شمس مكة المحرقة .. لقد "اشترى أبو بكر بلالًا وهو مدفون بالحجارة". دفنه أمية .. فهل سيدفن أمية بالحجارة ؟!
روى البخاري ومسلم من حديث  عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه لما اشتد أذى قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم، رفع يديه داعيا ربه، فقال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش"، ثم تسمى: "اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد".
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب -قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة" [12].